أرواحنا وليست عقولنا هي مكمن وجودنا، وهي البعد الأرحب والأعمق في شخصياتنا. في أرواحنا تجتمع الروعة مع الغموض، ومنهما معاً تتولد الحيرة، والعالم حائر في أمر الروح اليوم، وحائر في التعامل معها. وقد مسّ أمة الإسلام في أيامنا هذه شيء من هذا وذاك. ليست مهمة الإيمان مقصورة على رسم الفضاء النظري لمعتقداتنا ورؤانا، وإنما أيضًا منحنا التميز في عالم فقد الإيمان ودخل عالم الشك والضياع. إن الإيمان بالله –تعالى- يمنحنا ميزة فورية هي صعوبة سجننا داخل معطيات مادية محدودة. إنه يخرجنا فورًا من العالم المحدود والمحسوس إلى عالم من غير حدود.
وذلك العالم عالم الروح وعالم الغيب. في العالم المادي يشعر الإنسان دائمًا بالانكماش والضعف، ويجد نفسه محاصرًا بالضرورات ومهددًا بنفاد الطاقة. لكن في عالم الروح الأمر مختلف، كل شيء يتمدد، ويتسع، ويكبر؛ فيشعر المؤمن بمدد لم يحسب حسابه يغمر كيانه كله بالنور والحبور.
هدفنا الأعظم نحن المسلمين أن نفوز برضوان الله –تعالى-، وهذا الفوز يشكل مرجعية وأولوية بالنسبة إلينا، بمعنى أن الذي يدخل البهجة على نفوسنا، ويغمر أرواحنا بالسرور النقي يجب أن يظل دائمًا في إطار محبوبات الله –تبارك وتعالى-، كما أن كل أشكال الارتقاء المادي وكل المغانم والمكاسب التي نحاول الحصول عليها يجب أن تتم داخل ذلك الإطار.
وهذه نقطة مفاصلة بيننا وبين الأمم الأخرى. إن الأمم التي تقود الحضارة اليوم قد أسست منذ مدة لوضعية فيها الكثير من المجافاة للروح؛ حيث الأولوية لرفاهية الجسد، وحيث الحكم لمنتجات العقل ومعطيات الخبرة والممارسة. وليس في إمكان القوم على المدى القريب فعل أفضل من ذلك ما داموا فقدوا المفاهيم والرمزيات التي تجعل استمداد الرؤى من الوحي شيئًا معقولاً أو مقبولاً. إن الإيمان يجعلنا ننظر بجدية إلى أن كل التحسينات التي ندخلها على بيئاتنا وعلى أوضاعنا العامة لا تشكل غاية في حد ذاتها، وإنما هي وسيلة لمساعدتنا على تعميق صلتنا بالله –تعالى- وعلى النجاح في الابتلاء الذي كتب علينا في هذه الحياة.
إن مما يدعو إلى الأسف أن هذا المعنى المحوري قد لحقه الكثير من الحيف في هذه الأيام؛ حيث تعمل العولمة على إغراق وعينا بجزئيات وفرعيات وتفصيلات لا نهاية لها. ومع أن الاهتمام بالتفاصيل يظل علامة على الارتقاء؛ إلا أن ذلك يجب أن يكون في إطار الأصول والمبادئ الكلية، وإلا تحول إلى عامل يطمس ملامح توجهنا العام، فنفقد الغاية العظمى، وتصبح حركتنا في الحياة أشبه بكوكب فقد مداره. الخلاصة أن مواصفات زماننا التي تزداد رسوخًا وتعميمًا لا تخدم عالم الروح، ولا تلائم متطلبات الإيمان، وهذا يعني أن على المسلم الذي يريد أن يحيا وفق مبادئه وعقيدته أن يعوّد نفسه السباحة ضد التيار، وأن يمتلك طاقة استثنائية على التحمل والممانعة، ولدينا العديد من الآثار التي تدل على ما يلاقيه المتمسك بدينه في زمان كزماننا من عنت ومشقة، كما ورد ما يدل على عظم الأجر وجزالة المكافأة التي أعدها الله –تعالى- له.
لا يخفى علينا أننا في عالم يقدّس القوة على حساب الرحمة، ويحتفي بالمادي على حساب المعنوي، وينخرط في العاجل على حساب الآجل، وينظر إلى الطيبة على أنها نوع من السذاجة، وينظر إلى الحديث عن الأخلاق على أنه شيء ينـزع إلى المثالية، والمتحدث عنها يستحق شيئًا من الإشفاق!. وفي عالم كهذا تكون الأحاديث حول الرجاء والخوف والمحاسبة والمناجاة والشوق إلى الله –تعالى- وتذكر الصراط والميزان والكوثر وشقاء جهنم... شيئاً يدل على العيش خارج العصر وبعيدًا عن دوائر الاهتمام. وهذا بالضبط ما يجعل مملكة الروح تبدو موحشة ومهجورة!.
إن المسلم في هذه الحياة يحتاج إلى أمور كثيرة، لعله يأتي في مقدمتها أمران: رؤية راشد مسددة للواقع بفرصه وإمكاناته وتحدياته... وطاقة تساعده على قطع طريق طويل مملوء بالصعاب والعقبات. التفكير والتأمل والتثقف والحوار... أمور تساعد على تكوين الرؤى الجيدة. ويبقى علينا أن نتعلم كيف نحصل على مفتاح منجم الطاقة والقدرة المطلوبة.
إن الإيمان بالله –تعالى- حين يتجاوز وضعية القناعة العقلية ليصبح مصدرًا للشعور بمعية الله –تعالى- والأنس به والتوكل عليه والاستعانة به والثقة بما عنده... فإنه يصبح آنذاك المولّد الأساسي لروح المقاومة وروح المبادرة وروح الاستمرار لدى الإنسان المسلم. الإيمان حتى يكون كذلك فإنه يحتاج إلى شيء غير الفكر وغير الثقافة، إنه يحتاج إلى التعبد والتنفل والإكثار من ذكر الله –تعالى- ومناجاته... ولا ريب أن من يفعل هذا يكون في الأساس قد صار أداء الواجبات وترك المعاصي شيئًا مالوفًا في حياته وموضع التـزام صارم. تحــــــــــ ياتـــــــــــــــي